سورة الدخان - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الدخان)


        


{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}.
التفسير:
قوله تعالى: {حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.
الليلة المباركة هى ليلة القدر، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
.. وليلة القدر ليلة من ليالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، كما يقول اللّه سبحانه: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [185: البقرة].
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنها ليلة النصف من شعبان. تلك الليلة التي اعتاد كثير من المسلمين الاحتفاء بها، وتلاوة بعض الأدعية المرتبة لها، باعتبارها الليلة التي بفرق فيها كل أمر حكيم، وتقدر فيها الأرزاق والأعمار.
وهذا بعيد عن مفهوم الآيات الكريمة التي تنطق صراحة بأن الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن هى ليلة القدر، وأن شهر رمضان هو الذي أنزل فيه القرآن، وليس لشهر شعبان ولا ليلة النصف منه أي إشارة في القرآن الكريم.
وعلى هذا، فإن ليلة النصف من شعبان، ليست من الليالى الإسلامية ذات الشأن الخاص، وإنما هى ليلة من ليالى الزمن، غير موسومة بسمة خاصة، تمتاز بها على غيرها من الليالى.
أما ليلة القدر، وهى الليلة التي أنزل فيها القرآن، فهى ليلة باركها اللّه سبحانه وتعالى، واصطفاها من بين الليالى، كما يصطفى من يشاء من عباده للنبوة.. فهى ليلة مباركة، لأنها كانت ظرفا حاويا للرحمة المنزلة من السماء إلى الأرض، وهى القرآن الكريم.
ومعنى: {أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي ابتدأ نزوله في ليلة القدر، وابتداء النزول مؤذن بنزوله كله تباعا بعد ذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.
إشارة إلى أن إنذار الناس، وتنبيهم من غفلتهم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب- هو مما اقتضته رحمة اللّه بعباده.. والمراد بالإنذار ما تحمله كلمات اللّه وآياته من تحذير من عذابه، وتخويف بعقابه، وذلك ليستقيم الناس على الطريق السوىّ، وليرجعوا إلى اللّه، بعد أن تقطعت بهم السبل إليه.
وفى الاقتصار على الإنذار، مع أن رسالات السماء تحمل بين يديها- مع النذر التي تحملها إلى المشركين، والمكذبين- بشريات برضوان اللّه، وجنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين- في هذا إشارة إلى أن رسالات السماء إنما تجىء وقد ركب الناس رءوسهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وجرفهم تيار الضلال إلى حيث بشرف بهم على الهلاك، فكان من شأن من يخفّ للنجدة، والإنقاذ، أن ينفخ نفخة النذير، وأن يصرخ في هذا الموكب المتجه إلى حافة الهلاك: أن قفوا، وإلا فهو الهلاك وسوء المصير.. فإذا كان من هؤلاء الضالين استماع لهذا النذير، واستجابة لدعوته- كان للحديث عن الحياة الجديدة التي يحياها الناس مع الايمان باللّه والاستقامة على طريق الحق، وما وراء هذه الحياة من نعيم مقيم في جنات عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين- كان لهذا الحديث آذان تسمع، وقلوب تفقه، وصدور تنشرح، ونفوس تتهيأ للبذل والتضحية في سبيل هذا المعتقد الذي اعتقدته، واطمأنت إليه.
هذا، ومن مبادئ الشريعة: أنّ دفع المضار مقدم على جلب المصالح.
وعلى هذا فالإنذار من الخطر هو المطلوب أولا.. ثم يكون الاتجاه بعد هذا إلى جلب المنافع.
قوله تعالى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}.
فرق الأمر: قطعه، والفصل فيه.. ومنه الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل.
والمعنى: أنه في هذه الليلة المباركة يقضى ويفصل كل أمر حكيم، أي محكم، لا ينقض، ولا يبدل.
والمراد بالأمر الحكيم هنا، هو القرآن الكريم، الذي ابتدأ نزوله في ليلة القدر، وسمّى حكيما، لأنه قائم على الحكمة الإلهية، مقدر بقدرها، ولأنه كلام اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ} [64: يونس].
وما يضاف إلى هذه الليلة المباركة، من البركة، ومن القضاء بكل أمر حكيم فيها، هو خاص بهذا الكوكب الأرضى، وبالإنسان الذي يقوم على خلافة اللّه فيه، حيث لكل عالم نظامه الزمنى، وأوقاته المباركة.
وقوله تعالى: {أَمْراً مِنْ عِنْدِنا} منصوب على الاختصاص، أي أخص وأعنى بهذا الأمر الحكيم- أمرا صادرا من عندنا، هو القرآن الكريم.
وهنا سؤال، وهو كيف خصّ وصف الأمر بالحكمة هنا، مع أن كل أمر يقضى به اللّه هو موصوف بالحكمة من غير وصف؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن وصف الأمر بالحكمة ليس وصفا مخصصا له، وإنما هو وصف مؤكد للوصف القائم في ذات الأمر ومبين له.
كما يقال في وصف العسل مثلا بأنه حلو، وفى وصف المسك بأنه طيّب الريح.!.
وسؤال آخر.. وهو: كيف خصصت هذه الليلة بأنها يفرق فيها كل أمر حكيم؟ وهل يعنى هذا أنها الليلة التي يقضى فيها اللّه سبحانه وتعالى بما يقضى، ثم لا يكون له سبحانه قضاء في غيرها؟ وكيف وهو سبحانه يقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ؟} [29: الرحمن].
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن هذه الليلة، كما قلنا، خاصة بالعالم الأرضى، وعلى هذا، فإن ما يقضى به في هذه الليلة من عند اللّه يكون خاصا بهذا العالم، وبالمخلوقات، والكائنات الموجودة فيه.. وهذا يعنى أن مقدرات ما يجرى على هذا العالم الأرضى في مدة عام مقبل يفرق، ويقضى به في هذه الليلة إلى مثلها في العام القادم.. وهذا الذي يقضى وإن كان قد قضى به أزلا، فإن القضاء به في تلك الليلة معناه نقله من اللوح المحفوظ إلى جند اللّه من الملائكة الموكلين بإنفاذ ما قضى اللّه به.
وقد كان مما قضى اللّه سبحانه وتعالى في تلك الليلة نزول القرآن، وبعثة الرسول الكريم، وذلك في عام البعثة النبوية.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}، مشيرا إلى أنه مما قضى اللّه به في عباده أن يبعث في هؤلاء الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آيات اللّه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وذلك ليقيم الحجة على عباده، وليأخذهم بذنوبهم إذا هم عصوا رسله وردوا الهدى الذي يحملونه من اللّه إليهم.. كما يقول سبحانه: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15: الإسراء] وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
تعليل لبيان الحكمة التي من أجلها يرسل اللّه سبحانه وتعالى الرسل إلى عباده.. فهو سبحانه إنما يرسلهم رحمة منه، وفضلا وإحسانا.. وإلا فإن مع كل إنسان رسولا يدعوه إلى الإيمان باللّه، وهو عقله، الذي لو أحسن النظر به، ووجهه نحو الاتجاه الصحيح لعرف ربه، وآمن به.. ولكن من رحمة اللّه سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، أنه لم يدعهم لعقولهم التي قد تضل وتزيغ، فبعث إلى هذه العقول رسولا من عنده، ينبه الغافل منها، ويوقظ النائم، ويهدى الضال الحائر.. {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [165: النساء] وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى بأنه: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إشارة إلى إن هاتين الصفتين اللتين للّه سبحانه، قد جعل منهما للإنسان ما يقابلهما، رحمة منه وفضلا وإحسانا.
فالإنسان من شأنه أن يسمع، وأن يكون سميعا، ومن شأنه أن يعلم وأن يكون عليما.. وبهذا يرتفع إلى هذا المستوي الكريم، الذي أقامه اللّه سبحانه وتعالى فيه، خليفة له على الأرض.
وإن خير ما يسمعه الإنسان، من كلام، وخير ما يتعلم من علم، هو العلم المودع في كتاب اللّه.. فمن كانت له أذنان فليسمع، ومن كان له قلب فليعقل!.
قوله تعالى: {رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}.
هو بدل من قوله تعالى: {مِنْ رَبِّكَ}.
أي إنا أرسلناك رحمة من ربك، رب السموات والأرض وما بينهما.
وفى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} استدعاء لهؤلاء المشركين الذين سئلوا من قبل في آخر السورة السابقة: الزخرف: {مَنْ خَلَقَهُمْ} فقالوا: {اللَّهُ} (الآية 87) دعوة لهم أن يصححوا قولهم هذا الذي أنطقهم الواقع به، من غير أن يكون له رصيد من وعى، وإدراك، ونظر في ملكوت السموات والأرض.. ولهذا، فإن هذا القول لم يقع من أنفسهم موقع اليقين، أي المستيقن، المحقق، الذي تدعمه الأدلة والبراهين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}؟ (20- 21: الذاريات).
فالآية الكريمة دعوة إلى العلم الذي يقوم على النظر المتأمل، والعقل المتيقظ، والإدراك الفاقة.. فهذا العلم هو الذي يقيم في كيان الإنسان يقينا بما علم، وعن هذا اليقين تتحرك نوازع الإنسان، وتتجه إرادته، وتمضى عزيمته، وفى صحبته شعلة من هذا العلم، تضىء له الطريق، وتكشف له معالم الحق والخير.
وفى قوله تعالى: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} هو منطق المستيقن، الذي علم عن يقين، أن اللّه رب السموات والأرض وما بينهما.. فمن علم هذا واستيقنه، أسلمه هذا العلم إلى أن يعلم ويستيقن أن رب السموات والأرض وما بينهما، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} وأنه سبحانه هو الذي يحيى ويميت، وأنه سبحانه رب الناس جميعا.. السابقين والحاضرين واللاحقين.
قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}.
هو إضراب عن الحديث إلى هؤلاء المشركين، الذين دعوا ليسمعوا كلام اللّه، وليكونوا من السامعين- فلم يسمعوا، ولم يعقلوا.. فكان أن صرف اللّه سبحانه، النبىّ عنهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يقوم فيهم هذا المقام.. فهم في شك يفسد عليهم كل أمر يتصل بالرسول، وما يتلوه عليهم.
وهم لهذا لا يستمعون إليه إلا استماع الأطفال الذي يشغلهم اللعب عن كل حديث فيه جدّ.
قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}.
اختلف المفسرون في هذا العذاب الذي يغشى الناس.. وأكثر المفسرين على أنه كان ضربا من العذاب أخذ اللّه به المشركين، استجابة لدعوة يقال إن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا بها على مضر، فقال: «اللهم اشدد وطأت ك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» وقد اشتد القحط وعم الجدب، حتى أكلوا الجيف والعلهز.
قالوا وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل صاحبه ولا يراه لكثرة الدخان.. ثم إنهم جاءوا إلى الرسول مستشفعين، فشفع لهم، وكشف اللّه الضر عنهم.. فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا.
وقيل- وهو رأى قلة من المفسرين- إن هذا الدخان الذي يغشى الناس هو ما يطلع على الناس يوم القيامة من أهوالها ومرجفاتها.
والرأى الأول هو الذي نقول به، وذلك لأمرين:
أولهما: ما جاء بعد ذلك من قوله تعالى: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ..}.
وعذاب الآخرة لا يكشف عن أهل النار ليختبر بهذا الكشف ما عندهم من وفاء أو نكث بما عاهدوا اللّه عليه، إن كشف الضر عنهم.. فالآخرة دار جزاء، وليست دار ابتلاء واختبار.. وهذا يعنى أن الكشف المراد هنا، هو كشف عذاب وقع بالقوم في الحياة الدنيا.
وثانيهما: ما جاء بعد ذلك أيضا في قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى.. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}.
فهو وعيد من اللّه سبحانه وتعالى لهؤلاء المشركين الذين نقضوا ما عاهدوا اللّه عليه، بأن يؤمنوا إذا كشف الضرّ عنهم.. فلما كشف عنهم الضرّ عادوا إلى ما نهوا عنه.
وهذا يعنى أن الفعل الذي وقع الوعيد عليه كان في الدنيا، لأنه لا وعيد على ما يقع من الناس في الآخرة.
وقد يسأل سائل فيقول: كيف يقع عذاب على هؤلاء المشركين، وقد وعد اللّه سبحانه وتعالى النبي الكريم ألا يعذّب قومه وهو فيهم، كما يقول اللّه تعالى. {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [33: الأنفال] فكيف هذا؟.
والجواب- واللّه اعلم- أن هذا العذاب الذي لقيه المشركون من قحط أو قتل، ليس هو العذاب الذي كان يؤخذ به أقوام الرسل من قبل، والذي كان بلاء شاملا يستأصل القوم، ويأتى على كل شىء، فلا تبقى منهم باقية.
كما حلّ بقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط.. وإنما هذا العذاب الذي نزل بالمشركين، لم يكن إلا وجها من وجوه الحياة التي كانوا يتقلبون فيها.. فإذا نزل بهم قحط، فقد عرفوا هذا القحط من قبل وذاقوا العذاب منه.. وإن أصيبوا في أنفسهم في معركة، من المعارك كيوم بدر فما أكثر المعارك التي أريقت فيها دماؤهم وأزهقت أرواحهم.. ولكن الذي يجعل لهذا العذاب الذي ينزل بالمشركين طعما جديدا، هو أنه يأتى على يد النبىّ، بدعائه عليهم، وذلك فيما أصابهم من قحط، أو على يد أصحابه يوم بدر.
فهذا هو الذي يجعل لهذا العذاب حسابا خاصا عندهم، وأثرا مضاعفا في نفوسهم.
هذا ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [52: التوبة].. فالنبىّ والمسلمون معه، إنما يتربص بهم، وينتظر أن يحلّ بهم عذاب من عند اللّه، وهو هذا القحط الذي حلّ بهم، أو أن يحلّ بهم عذاب بأيدى المؤمنين، وهو ما أصابهم على أيدى المسلمين من خزى وهو ان في ميادين القتال، حتى لقد انتهى الأمر بدخول المسلمين عليهم، مكة، واستسلامهم للنبىّ، وإسلامهم للّه رب العالمين.
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء المشركين قد دخلوا جميعا في الإسلام، ولم يمت منهم على الكفر إلا أعداد قليلة بالنسبة لمجموعهم، سواء من مات منهم في ميدان القتال بأيدى المسلمين، أو من مات حتف أنفه.. وهذا من شأنه ألّا يوقع حكما عاما على هؤلاء المشركين بالعذاب الأليم يوم القيامة، وذلك لأنهم سيصبحون عما قليل في عداد المؤمنين باللّه.. وعلى هذا فإن ما يتهددهم به القرآن من عذاب، هو العذاب الدنيوي، الذي يرونه رأى العين، والذي يكون فيه عبرة وعظة، تفتح لهم الطريق إلى الإيمان باللّه، كما يقول اللّه سبحانه عن غزوة بدر: {قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} [13: آل عمران].
وقوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}.
هو استبعاد لأن يقع في نفوس المشركين شيء من العبرة والتذكر من هذا الابتلاء الذي ابتلوا به من القحط، الذي كان آية على صدق النبىّ، وعلى صلته بربّه، إذ كان هذا القحط دعوة مستجابة له من اللّه، كما كان رفع هذا البلاء عنهم استجابة أخرى للنبىّ من اللّه سبحانه وتعالى.. فهو معجزة من معجزات النبىّ، المادية، بعد أن ملأ النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- الدنيا عليهم، بالمعجزة الكبرى، التي تطلع عليهم من آيات اللّه وكلماته.
فما ذا تفعل هذه الآية في نفوس تحدّت الرسول وما بين يديه من كتاب مبين، تنطق آياته وكلماته بالمعجزات التي لا تنتهى؟ لقد تولوا عنه، وأعرضوا عن الاستماع إليه، والنظر فيما بين يديه، واتهموه بالكذب والافتراء والجنون، وقالوا {مُعَلَّمٌ} أي علمه غيره، و{مَجْنُونٌ} يهذى بهذا الذي اختطفه من علم العلماء!! وفى وصف الرسول الكريم بأنه {مُبِينٌ}، إشارة إلى القرآن الكريم الذي بين يديه، والذي فيه البيان المبين إلى الهدى ودين الحق، وأنه بهذا القرآن يقدم الحجة الدامغة، والسلطان المبين، كما يقول سبحانه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [44: النحل].
وقوله تعالى: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ}.
هو حكم كاشف عن حال هؤلاء المشركين مع تلك التجربة، وأنهم سينكثون هذا العهد الذي عاهدوا اللّه عليه، لو أنه كشف عنهم العذاب.
وفى قوله تعالى: {إِنَّكُمْ عائِدُونَ}.
هو إشارة إلى أنهم كانوا أثناء تلك المحنة قد اتجهوا إلى اللّه، وأخذوا طريقهم إلى الإيمان به، فلما كشف الضرّ عنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، وانسحبوا من هذا الطريق الذي وضعوا أقدامهم عليه.. وهكذا شأن أهل الضلال، إذا مسّهم الضر دعوا اللّه مخلصين له الدين، فإذا كشف الضرّ عنهم تولوا عنه معرضين.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها، رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [22- 23: يونس].
وقوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} أي إننا منتقمون منكم أيها الضالون الناكثون للعهد، وذلك يوم نبطش بكم البطشة الكبرى، وهذه البطشة الكبرى هى يوم بدر، حيث قتل من رءوس المشركين وسادتهم سبعون قتيلا، وأسر منهم سبعون مقاتلا..!


{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّه ُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} قلنا في أكثر من موضع، إن القرآن الكريم يجمع في كثير من المواقف، بين مشركى قريش، وبين فرعون وآله، وذلك لما بين الفريقين من تشابه كبير في الكبر، والاستعلاء والعناد، مع الجهل الذي يدفع بهذه القوى الغاشمة الجامحة، إلى حيث يلقون مصارعهم على يديها.
وإنه كما فتن قوم فرعون بأنفسهم، وبما زين لهم الجهل والغرور، فرأى فرعون في نفسه أنه إله، ورأى الملأ من حوله أنهم أشباه آلهة- كذلك فتن المشركون من قريش بأنفسهم، ورأوا أنهم أكبر من أن يتلقوا شيئا من إنسان، ولو كان هذا الإنسان مرسلا من رب العالمين.
وفى قوله تعالى: {وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} إشارة إلى موسى- عليه السلام- وأنه الرسول الكريم الذي جاء إلى فرعون وملائه.
وفى وصف موسى بالكرم، لما في يديه من معجزات كثيرة، عاد على الناس خيرها، فعاشوا في ظلها كما يعيش الناس في ظل جناب كريم معطاء.
فقد كان بين يدى موسى من المعجزات: العصا، التي أخرج بها بنى إسرائيل من العذاب المهين، والتي فجر بها الماء من الحجر.. كما كان من معجزاته المنّ والسلوى، الذي كان طعام بنى إسرائيل إلى أن عافوه، وزهدت فيه نفوسهم الخبيثة.
وقد كان يمكن أن يكون لفرعون نصيب عظيم من هذا الخير الذي بين يدى موسى، لو أنه صدّقه، وآمن باللّه.
قوله تعالى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} هو بيان لمضمون الرسالة التي حملها هذا الرسول الكريم إلى قوم فرعون، وهو أن يؤدّوا إليه عباد اللّه، أي يطلقوهم، ويرسلوهم معه إلى حيث يخرج بهم من هذا البلاء الذي هم فيه.
وفى التعبير عن بنى إسرائيل بقوله تعالى: {عِبادَ اللَّهِ} إشارة إلى أنهم ليسوا عبيدا لفرعون، ولا لقوم فرعون، وإنما هم عبيد للّه.. وهذا رسول اللّه يطلبهم لينقلوا من هذه العبودية للناس، إلى العبودية للّه.
وفى التعبير عن إرسال بنى إسرائيل مع موسى بقوله تعالى: {أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ} إشارة إلى أنهم أمانة للّه في يد القوم، وأن عليهم أن يؤدوا هذه الأمانة عند طلبها.. وهذا يعنى أن الضعيف أمانة في يد القوى، وأن عليه أن يرعاه ويحفظه، وألّا يضيّع إنسانيته بالقهر والبغي، فيتحول في يده إلى إنسان قد فقد وجوده.. إنسان قد مسخت إنسانيته فاستخذى وذلّ.. وهذا هو الضياع، الذي هو الموت بالحياة! وفى وصف موسى بالأمانة في قوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} إشارة أخرى إلى أنه سيحفظ أمانة اللّه في عباده، إذا صاروا إلى يده، وألا يضيّعهم كما ضيعهم فرعون، بل إنه سيصلح ما أفسد فرعون منهم، ويطبّ لما رماهم به من داء اغتال كل معانى الإنسانية فيهم.
قوله تعالى: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} هو من مضامين هذه الرسالة، ومن مقول القول الذي واجه به موسى القوم.. وهو أنه قد جاءهم بسلطان مبين، أي سلطان ظاهر، يعلو كل سلطان.
ومن كان هذا شأنه فلا يصحّ أن يلقاه القوم متعالين.. فإنه- وهو أعلى منهم سلطانا وأقوى قوّة- قد جاءهم طالبا راجيا، ولم يأتهم آمرا مستعليا.
وفى التعبير عن السلطان الذي يلقى به القوم- في التعبير عن هذا بفعل المستقبل {آتِيكُمْ} إشارة إلى أن هذا السلطان الذي معه لم يره القوم بعد، وأنهم إذا شاءوا أن يروه أراهم إياه.
وفى هذا يقول اللّه تعالى، فيما كان بين فرعون وموسى: {قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ! فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [30- 33: الشعراء] فالسلطان المبين الذي جاء به موسى، هو عصاه، ويده، ولم يكن فرعون ومن معه يرون في العصا واليد سلطانا.. فلما سألوا موسى أن يريهم هذا السلطان- ألقى عصاه، ونزع يده.. فكانتا آيتين من آيات اللّه!! قوله تعالى: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} هو أيضا من مقول القول من موسى إلى فرعون وملائه. يقول لهم.. إنى مستعيذ باللّه، ومستجير بربي وربكم أن تأخذكم العزة بالإثم، فتمتد أيديكم إلىّ بالأذى، أو أن تتطاول علىّ ألسنتكم بالفحش من القول، فترجمونى بقوارص الكلم، وبذيئه.
فالمراد بالرجم هنا، القذف بالكلمات البذيئة، من غير حساب.
وفى قوله: {وَرَبِّكُمْ} مع أنهم لا يعترفون بربّ موسى ربّا لهم- إلزام لهم بالاعتراف برب موسى، وإن لم يقبلوه ربّا لهم.. فذلك هو الحق الذي يقال، سواء قبله القوم أم رفضوه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} أي وإن لم تصدقونى، وتسلّموا بما جئتكم به، ودعوتكم إليه، فليكن الأمر بينى وبينكم على ما كان عليه من قبل، وهو أن تكفّوا عنى، وتدعونى وشأنى، بعد أن بلغتكم رسالة ربى.
قوله تعالى: {فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}.
أي دعا موسى ربه: أن هؤلاء قوم مجرمون، وأنهم قد استحقّوا بإجرامهم أن يلقوا جزاء المجرمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان موسى في موضع آخر: {وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [88- 89 يونس].
وقوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} هو جواب لنداء موسى ربّه، ودعائه إياه أن يأخذ هؤلاء المجرمين بجرمهم.. ولم يصرح القرآن الكريم بالجزاء الذي طلب موسى من ربه أن يجزى به القوم المجرمين، وإنما اقتصر على عرض القوم وهو في تلبسهم بالكفر الذي هو الجريمة التي يدانون بها.. وفى هذا ما يشير إلى أن عقابهم على هذا الجرم أمر مفروغ منه، وأنه لا يحتاج إلى طلب، إذ كانت تلك الجريمة الشنيعة تنادى بالويل والهلاك لمن ألمّ بها.
ولهذا جاء قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} معطوفا بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب- على قوله تعالى: {فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} وذلك مما يشعر بأن الدعاء واستجابة الدعاء، أمر واحد.. بمعنى أن الجريمة وعقابها مترابطان متلازمان.. فحيث كانت هذه الجريمة، كان العقاب مصاحبا وملازما لها.
وفى قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا} بذكر الليل مع أنّ السّرى، لا يكون إلا ليلا- في هذا ما يشير إلى ما ينبغى أن يكون عليه موسى وقومه، من الحذر، وهم يأخذون طريقهم ليلا، فارّين هربا من وجه فرعون.
فقد يكون السير ليلا فاضحا لأهله، إذا هم أحدثوا جلبة وضوضاء.
وأصل السّرى من السرّ، وسمى السير بالليل سرّى لأن الليل يكتم تحرك الأشياء، ويسترها عن الأعين.
وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} بيان للحكمة من السير ليلا، إذ أن هناك من يتربص بالقوم، ويتتبع آثارهم وأخبارهم.
قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}.
الرهو: المستوي، المتسع، من كل شىء.
وهذا أمر لموسى من ربه، أن يترك البحر قائما فيه الطريق الذي أحدثه بعصاه.. لأنه سيطبق وشيكا على فرعون وجنوده، بعد أن يجاوزه موسى وقومه.
وسمى فرعون وقومه هنا جندا، لأنهم كانوا في معركة مع موسى، وقد انتهت هذه المعركة، وكانوا من المفرقين.
والآيات هنا تختصر الأحداث، وتطويها طيّا، لأن تفصيل هذه الأحداث، قد جاء به القرآن في مواضع أخرى، فكانت الإشارة إليها هنا مغنية عن الشرح والتفصيل.
قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ}.
هذا بيان لما خلّف هؤلاء الهالكون غرقا، فقد خلقوا وراءهم جنات مثمرة، وعيونا جارية، وزروعا مونقة، وحياة طيبة، ومعيشة راضية.. وهو شيء كثير أفاضه اللّه على القوم من فضله، فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا.. وها هم أولاء قد خلّفوه وراءهم، يعيش فيه غيرهم، وينعم به سواهم.. فما أغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه من شىء..!
قوله تعالى: {كَذلِكَ.. وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ}.
أي بمثل هذا الإحسان العظيم إليهم، كان عقابنا الشديد لهم، فنزعنا هذه النعم من أيديهم، وأورثناها قوما آخرين من بعدهم، وهم أبناؤهم الذين صارت إليهم هذه الأرض، وما خلّف المفرقون فيها من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم.
وسمّى الأبناء الوارثون لهؤلاء المغرّقين- سمّوا قوما آخرين، لأن آباءهم كانوا على حال من الضلال، بحيث لا يكاد يجمعهم بأبنائهم أي وجه من وجوه الشبه.. فمهما ورث أبناؤهم من بعدهم من الكفر والضلال، فإن المسافة بينهم وبين أبنائهم ستظل دائما بعيدة، لأن آباءهم قد بلغوا في هذا الضلال غاية لا يبلغها أحد.
هذا ويذهب كثير من المفسرين إلى أن القوم الآخرين، هم بنو إسرائيل.
وهذا غير معقول، لأن بنى إسرائيل قد خرجوا من هذه الأرض، فرارا من العذاب، الذي سلّط عليهم فيها، وقد تحدث القرآن عن تيههم في الصحراء أربعين سنة، ثم عن حياتهم في أرض كنعان، بعد موت موسى.
ثم إن المراد بالميراث هنا ليس هو الوارث، ولهذا جاء مجهلا بقوله تعالى {قَوْماً آخَرِينَ}.
وإنما المراد، هو الإخبار عن هلاك فرعون، وإخلاء يده مما كان يعتزّ به من ملك وسلطان، كما يقول اللّه سبحانه على لسانه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟} [51: الزخرف] فلقد ذهب كل ذلك، ولم يغن عنه شيئا، بل وصار ميراثا لغيره.
قوله تعالى: {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ}.
أي لقد أهلكهم اللّه وأخذهم بعذابه، فلم يأس عليهم أحد، ولم تبكهم عين، ولم يحزن من أجلهم قلب.. بل ذهبوا كما يذهب الوباء، يتنفس بعده الناس أنفاس العافية والرجاء.
فليس لهؤلاء الهلكى أولياء في السماء، ولا في الأرض.. فهم أعداء اللّه، وأعداء ملائكته، وأعداء رسله، وأعداء الإنسانية كلها.
راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم *** ولا تعطّلت الأعياد والجمع
وقوله تعالى: {وَما كانُوا مُنْظَرِينَ} أي لم يكونوا ممن يمهلون بالجزاء إلى يوم القيامة، بل كان عذابهم معجّلا في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
وهذا يعنى أمرين:
أولهما: أنّ جرم هؤلاء المجرمين قد بلغ من الشناعة حدا بحيث لا يسعه عذاب الآخرة، فكان عذابهم في الدنيا، وفى الآخرة جميعا.
وثانيهما: أن هؤلاء المشركين من قريش، لن يعجّل لهم العذاب، كما عجّل لقوم فرعون، بل إنهم منظرون إلى يوم القيامة.. وفى هذا رحمة من اللّه بهم، وإكرام لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من ربه في قومه.. فإن هذا الانتظار بهم، سيفسح لهم مجالا لإصلاح ما فسد منهم، واللحاق بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الإيمان.. وقد كان.. فدخل هؤلاء المشركون في دين اللّه، وكانوا جندا من جنود اللّه، للجهاد في سبيل اللّه، وإعلاء رأية دين اللّه.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} في هذا بيان لما كان للّه سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، في نجاة بنى إسرائيل، أجداد هؤلاء اليهود الذين يقفون من دين اللّه موقف المتربص به، والمتحفز للانقصاض عليه.. فقد نجّى اللّه سبحانه وتعالى آباءهم الأولين من العذاب المهين الذي أخذهم به فرعون.. فليذكر اليهود نعمة اللّه عليهم، وليكونوا أولياء لأوليائه.. وإلا فالويل لمن يحادّ اللّه، ورسل اللّه! قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ} أي ومن نعم اللّه وإحسانه على بنى إسرائيل أنه سبحانه قد اختارهم على أهل زمانهم، ليكونوا موضع امتحان وابتلاء، فجعل فيهم الأنبياء الذين جاءوهم بالآيات البينات من عند اللّه.
وفى هذه البينات ابتلاء لهم أي ابتلاء.. فقد تتابعت آلاء اللّه عليهم، وكثرت نعمه فيهم.. وإنه على قدر الإحسان يكون الحساب.. وقد خرج بنو إسرائيل من هذا الامتحان بأخسر صفقة، إذ كشف ذلك منهم عن نفوس خبيثة، وقلوب مريضة، وطبائع شرسة- فكان أن أخذهم اللّه بالبأساء والضراء، وأنزل بهم الضربات القاصمة، فكانوا عبرة وعظة لمن يكفر بنعم اللّه، ويستنبت من إحسانه وفضله أنيابا ومخاب ينهش بها عباد اللّه.
فلقد لعنهم اللّه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} [13: المائدة].
ويقول جل شأنه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} [78: المائدة].
ويقول سبحانه فيهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ.. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [167: الأعراف].
وفى قوله تعالى {عَلى عِلْمٍ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، إنما كان اختياره لبنى إسرائيل، واختصاصهم بكثرة الأنبياء الذين أرسلوا فيهم، والآيات التي جاءوهم بها، وتظاهر النعم عليهم- إنما كان ذلك على علم منه سبحانه وتعالى بما سيكون من هؤلاء المناكيد، من كفر بهذه الآيات، وتكذيب لرسل اللّه، وإعنات لهم، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: {أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [87: البقرة].
ففى قوله تعالى: {عَلى عِلْمٍ} ردّ على من لا يعرف قدر اللّه سبحانه وتعالى، ولا يعنو لجلاله وعظمته، فيسوء ظنّه باللّه، حين يرى آثام بنى إسرائيل، وشناعاتهم، ومفاسدهم في الأرض، ثم يرى كثرة الرسل الذين بعثهم اللّه فيهم، وكثرة الآيات التي جاءوهم بها، مما لم يكن لأمة من الأمم، أو شعب من الشعوب.
فكان قوله تعالى: {عَلى عِلْمٍ} ردّا على من يظن هذا الظن في اللّه، ويرى- عن جهل- أن اختيار اللّه سبحانه لهؤلاء القوم، واختصاصهم بالرسل والشرائع والمعجزات، لم يكن واقعا موقعه الصحيح، إذ لم يثمر إلا هذا الثمر النكد الخبيث!! وكلا.. ثم كلا.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
فقد كان اختيار هؤلاء القوم لرسالات السماء ابتلاء لهم وامتحانا، وتجربة للإنسانية، تعمل فيها السماء أسلحتها في النفس البشرية، لتخرج منها ما كمن فيها من آفات وعلل.. وقد تخيرت السماء لهذه التجربة أخبث ما في الإنسانية من نفوس، وأرذلها من جماعة، فبعثت بالأطباء والأساة يحملون الدواء لكل داء.. فلم تتقبل نفوسهم الخبيثة أي دواء، ولم تستجب له.. فعاشت بدائها.
وماتت به!.


{إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}.
الإشارة هنا {هؤُلاءِ} إلى مشركى قريش، الذين استمعوا إلى هذا الحديث من أمر فرعون وموسى، وما كان من استكبار فرعون وعتوّه، وما أخذه اللّه به من عذاب ونكال.. ثم ما كان من إحسان اللّه سبحانه إلى بنى إسرائيل وفضله عليهم، ثم مكرهم بآيات اللّه، وتكذيبهم لرسله.
فكان أن لعنهم اللّه، ومزّق شملهم، وفرق جماعتهم.. وقطّعهم في الأرض أمما.
وهؤلاء المشركون.. ماذا هم فاعلون مع رسول اللّه، وما يحمل إليهم من آيات ربه؟ فهذا سؤال يسأله الذين استمعوا إلى هذا الحديث الذي تحدث به القرآن عن فرعون وموسى، وعن بنى إسرائيل وآيات اللّه إليهم.
فكان الجواب:
{إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} هذا هو الداء المتمكن من القوم، وهو إنكارهم للبعث، والحساب والجزاء، وذلك لاستبعادهم أن تعود الحياة مرة أخرى إلى الموتى، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.. إنهم على يقين من أنهم لم يبعثوا، وإنهم ليقولون لمن يحدثهم عن البعث: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}.
أي ما هى إلا موتة واحدة، لا حياة بعدها.. وهم بهذا يردّون على تصور خاطئ للبعث- ففى تصورهم هذا، أن البعث بعقبه موت.. لأنه حياة بعد موت، وهذه الحياة- في تصورهم- سيعقبها موت.. ثم حياة.. ثم موت، وهكذا.. ولهذا جزموا بأنه لا موت بعد أن يموتوا، بمعنى أنه لا بعث، ولا موت بعد البعث. إن كان هناك بعث!! وفى التعبير عن الحياة بعد الموت بالنشر، تشبيه للموت بأنه طىّ لحياة الإنسان، كما تطوى الصحف على ما ضمّت عليه من كلمات.. فإذا أريد النظر في هذه الكلمات مرة أخرى، نشرت هذه الصحف، بعد طيّها.
فالموت ليس إلا طيّا لصفحة الحياة، مع بقاء الحياة كامنة في هذه الصحف المطوية، ونشر الصحف بعد طيّها أمر هين، لا يحتاج إلى عناء ومعالجة، كما أنه لا يدعو إلى استبعاده وإنكاره!!.
قوله تعالى: {فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
هو من تحدّيات المشركين المنكرين للبعث، لمن يحدثونهم عن البعث، ويدعونهم إلى الإيمان.. إنهم يؤكدون أنه لا موت إلا الموتة الأولى، التي تنهى حياتهم تلك، ثم لا حياة ولا موت بعد هذا.. ثم إن لهم على هذا شهودا من الواقع.. فهؤلاء آباؤهم الذين أودعوهم القبور، لم يعد أحد منهم. فإن كان الذين يقولون بالبعث على يقين من هذا القول، فليأتوا على هذا ببرهان، وذلك بأن يجيئوا لهم بآبائهم هؤلاء الذين ذهبوا.. فإذا لم يرجع هؤلاء الذين ذهبوا، فكيف يرجعون هم إذا ذهبوا؟ ذلك منطقهم الذي جعل البعث عندهم أبعد من أن يتصوّر.
إنهم كانوا يؤمنون بأن لهذا الوجود ربّا قائما عليه، هو الذي خلقه، وهو الذي يدبر أمره، وإن كان هذا الإيمان قد اختلط بشوائب كثيرة أو قلبلة من الأهواء الفاسدة.
ولكن الشيء الذي لا يتصورونه، ولا يصدقون به، هو البعث.
وهو الداء الذي أفسد عليهم إيمانهم باللّه، وأقامهم في هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، بتهددهم فيه الفناء الأبدى المطلّ عليهم من كل وجه.
وهذا قسّ، بن ساعدة الإيادى، من حكماء العرب، وخطبائهم المعدودين وقد نسب إليه أنه كثيرا ما كان يخطب في الناس فيقول: إن في السماء لعبرا، وإن في الأرض لخبرا.. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج،.. البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير.
ومن هذا العبارات وأمثالها يقيم قسّ الأدلة والبراهين على وجود إله قائم على هذا الكون.. فإذا جاء إلى الموت لم ير فيه إلا حكما واقعا على الأحياء، وأنه سفر بلا عودة، وذهاب ولا إياب.. وينسب إليه أنه كان يقول:
فى الذاهبين الأولين *** من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت *** ليس لها مصادر
ورأيت قومى نحوها *** يمضى الأكابر والأصاغر
أيقنت أنى لا محالة *** حيث صار القوم صائر
لا يرجع الماضون لا ولا *** يبقى من الباقين ناظر
فهو- كما ينطق هذا الشعر- لا يرى عودة للموتى، وإن كان يرى أن لا بقاء لحىّ في هذه الحياة.!
قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ}.
هو تهديد لهؤلاء المشركين المكذبين برسول اللّه، وبما يتلو عليهم من آيات اللّه،. وأنهم ليسوا أحسن حالا من قوم تبع الذين أهلكهم اللّه وبدد شملهم، فلم يغن عنهم ما كانوا فيه من عزة وقوة ومنعة.
وقوم تبع، هم الذين كانوا يسكنون اليمن، قبل أن يشملها الخراب والدمار، بانهيار سدّ مأرب.. وتبّع هو الجدّ الأعلى لقومه.
وقد ذكر القرآن الكريم في موضع آخر ما أخذ اللّه به هؤلاء القوم- قوم تبع، من نكال وبلاء، بعد أن كفروا بنعمة اللّه، وبطروا معيشتهم.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ}:
(15- 17: سبأ).
وليس قوم تبع إلا جماعة من تلك الجماعات الكثيرة التي أهلكها اللّه سبحانه وتعالى، وأخذها بعذابه الأليم في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
فمن قبل قوم تبّع، أهلك اللّه قوم نوح، وأهلك عادا، وثمود، وأصحاب مدين وقوم لوط.. وهؤلاء ممن ذكر القرآن أخبارهم.. وهناك كثيرون من الأفراد والجماعات لم يذكروا.. إذ ليس المقصود من الذكر إلا العبرة والعظة. وفى هذا القليل الذي ذكر، عبرة وعظة لأولى الألباب.
قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، ذكرت إنكار المشركين للبعث، وما لهم على هذا الإنكار من حجج باطلة.. وقد تهددهم اللّه سبحانه وتعالى وتوعّدهم بالهلاك في الدنيا، كما أهلك الظالمين المكذبين قبلهم.
وهذه الآية، والآية التي بعدها، هى تعقيب على ما هدّد له به المكذبين من بلاء.. وذلك أن اللّه سبحانه أقام هذا الوجود على الحق، كما خلقه بالحق الذي ينتظم كل ذرة في هذا الوجود.. ولهذا فقد اقتضت حكمة اللّه سبحانه وتعالى أن يجعل سلطان الحق قائما على هذا الوجود، وأن يقطع دابر الباطل إذا هو طاف بحمى الحق، واعترض سبيله.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم في أكثر من موضع، فيقول اللّه سبحانه وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} [18: الأنبياء] ويقول سبحانه: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [7- 8: الأنفال] وإذن، فهذه الضربات التي تنزل بأهل الباطل، في هذه الدنيا، هى وقاية للحق من أن يغتاله الباطل.. فإذا كانت الآخرة، كان القضاء المبرم على الباطل وأهله جميعا.. وفى هذا اليوم ينطق الوجود كله بحمد اللّه، أن قضى على الباطل والشر والضلال، وكل ما من شأنه أن يخرج على طريق الحق.
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [75: الزمر] قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
الميقات: اسم زمان، والمراد به وقت الموعد الذي يكون فيه الحساب والجزاء.. وهو يوم القيامة.
ففى هذا اليوم- يوم القيامة- يصفّى حساب الناس جميعا.. فيجمع أهل الباطل على مختلف صورهم، ويلقى بهم في جهنم ليكونوا حطبا لها.. وبهذا يتخلص الحق من كل ما علق به من شوائب.. وفى هذا اليوم يتعرّى أهل الضلال من كل سلطان يدفع عنهم هذا المصير، الذي هم صائرون إليه.. إنه لا ناصر لهم من دون اللّه، يخلصهم من هذا العذاب الأليم.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} هو استثناء من الضمير في قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}.
أي لا ناصر لأحد في هذا اليوم، ولا مخلّص له من عذابه إلا من رحمه اللّه من عباده، فهذاه إلى الإيمان، ووفقه لطاعته.
فكل من زحزح عن النار وأدخل الجنة، فذلك برحمة من اللّه وفضل وإحسان.. وفى هذا يقول النبي الكريم: «لا يدخل أحد الجنة بعمله قيل ولا أنت يا رسول اللّه قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى اللّه برحمته» وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
فهاتان الصفتان من صفات اللّه، التي يتجلى بها اللّه سبحانه وتعالى على أهل المحشر يوم القيامة.. فبعزته- سبحانه- يملك أمر هذا اليوم، ويقضى فيه بما شاء في الظالمين، وأهل البغي والعدوان، فلا يكون لهم مع سلطان اللّه سبحانه سلطان، ولا مع عزته عزة.. وبرحمته- سبحانه- يدخل من يشاء من عباده الجنة، ويصفى عليهم ما يشاء من فضله وإحسانه.. كما يقول سبحانه: {يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} [31: الإنسان].
قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}.
تحدّث هذه الآيات عن صورة من صور العذاب الذي أعد للظالمين، يوم القيامة.. وقد جاءت هذه الصورة من العذاب، مفردة، حيث تحصر في إطارها إنسانا ظالما، باغيا، من هؤلاء الظلمة الباغين.. فيبدو في هذه الصورة وكأن العذاب الجهنّمى قد احتواه وحده، وفى شخصه هذا يرى كل ظالم أثيم أنه هذا الإنسان الشقي المنكود، يتقلب وحده في هذا العذاب الذي تقشعر من هوله الجبال!.
وشجرة الزقوم، كما وصفها القرآن الكريم هى شجرة: {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}.
وإن شجرة تغتذى من جهنم، وتمتد أصولها وفروعها بين جمرها ولهيبها، لهى شجرة أقوى من جهنم، وأعتى من النار.. فكيف بثمرها هذا الذي تختصر وجودها كله فيه؟ إن هذا الثمر هو طعام الأثيم!!.. وإنه كالمهل، أي خثارة الزيت بعد غليانه.
وقوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ} هو تنكيل بهذا الأثيم، ومضاعفة لما يلقى من ذلة وهو ان في هذا اليوم، حيث يساق إلى جهنم بين زبانيتها سوقا عنيفا، ثم يعتل عتلا، ثم لا يلقى به حيث يقع، بل يدفع به دفعا حتى يبلغ سواء الجحيم، أي وسطها، ومركز دائرتها.
وبهذا يتلّقى من العذاب أقساه وأشده.
وقوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ} هو عذاب إلى هذا العذاب، الذي يأكل هذا الأثيم أكلا، ثم يلفظه، ثم يأكله.
وهكذا.. وما يصبّ فوق رأسه ليس ماء، وإنما هو عذاب.. ولكنه من حميم، أي من ذوب جهنم، ونضيج عرقها!!.
والحميم: الماء الحار الذي يغلى.. ومنه الحمّى، لاشتداد حرارة المريض بها.
وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} هو مما يساق إلى هذا الأثيم، من ألوان العذاب.. فهو إذ يشوى بنار جهنم، يصبّ فوق رأسه ما ينضح عليه من لهيبها من عرق، ليتبرّد به. ثم يلقى في أذنه بهذه التحايا التي كان يتلقاها في دنياه من ندمائه وأتباعه.. وإنها لتحايا تملأ قلبه حسرة وكمدا.. {ذُقْ}! وأي شيء يذوق؟ مهلا يغلى في بطنه، وحميما يصبّ فوق رأسه، ونارا تقطّع له منها أثواب فوق أثواب!.
هذا هو نعيمه الذي ينعم به، وتلك هى التحايا التي يحيّا بها، والكؤوس التي يتناولها من يد السقاة والندمان!! وإنه مع هذا هو العزيز الكريم.. يحضره في هذا البلاء المشتمل عليه- ما كان له في دنياه من عزة ومنعة في قومه، وما كان له من كرامة فيهم، وإكرام منهم.. فهذان شاهدان من أهله- عزته وكرامته- يشهدان هوانه، وذلته.. وإنه ليس أشد إيلاما للنفس، ولا إزعاجا للفؤاد، من أن يفتضح المرء في أهله، وأن يعرّى على أعينهم، مع ما كان له فيهم من عزة وكرامة.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}.
عاد الخطاب إلى الجماعة، بعد أن شهدوا أنفسهم فردا فردا، في شخص هذا العتلّ الأثيم، الذي تجرع كئوس العذاب والهوان ألوانا مترعة.. فهذا العذاب، هو الذي كان يمترى فيه، أي يجادل فيه هؤلاء الضالون، الذين كانوا يجادلون من يحدثهم عن اليوم الآخر، ويحذرهم من لقاء ربهم فيه، على ما هم عليه من شرك وضلال.

1 | 2